أم أحمد

أم أحمد


أنظر من نافذة حجرتي فأراها، دائمًا تبتسم ابتسامة هادئة ولكن باهتة، مالت بجسدها النحيل على السيارة أمامها تنظفها بخرقة بالية، تجاهد كي تنهي مهمتها فقد بلغ الإجهاد منها مداه ،فجعلها تكاد لا تقوى على الوقوف، من يصدق أن هذه المرأة "عزة" أو "أم أحمد" كما أعتاد الجميع أن يناديها في الثلاثين من عمرها، أنظر إلى وجهها فأرى خطوط قد خطها الفقر والحرمان، بشرتها السمراء تذكرك بشمس الصعيد الملتهبة، جسدها الهزيل الجاف يكاد يخلو من معالم الأنوثة و لكن أراها دائما تبتسم ابتسامتها الهادئة التي تجعلني أتعجب من تحملها وجلدها  يذكرني صمودها بجذع نخلة أراه فى الطريق إلى بلدتي،  تسمع أم أحمد من يناديها من أعلى : "أم أحمد"
ذهبت مسرعة وتنظر لأعلى
- أيوة يا مدام
- في إيه يا أم احمد، نسيتي اللبن والفينو اللي قولتلك عليهم.
- حاضر معلش، حالا هجيبه.
أسرعت إلى حجرتها الصغيرة المظلمة ذات الرائحة العطنة التي تزكم الأنوف والتي لا يعرف شعاع الشمس لها سبيلًا، كانت الحجرة غارقة في الظلام فتحسست أم أحمد طريقها إلى زر الأضاءة لتبدد ظلمة الحجرة و تضيء مصباح يتدلى من سلك كهربي في منتصف سقف الحجرة، أزاح النور الظلام فكشف عن مدى بشاعة الحجرة؛ جدران تغطيها طبقة كئيبة من الأسمنت أو المحارة كما يسميها الناس، أرضية الغرفة يغطيها حصيرًا كبيرًا خشنًا، يوجد لوحان من الخشب مثبتان على أحد الجدران تتناثر عليهما بعض الأوعية والأكواب والأطباق، وبجانب اللوحان موقد غاز قديم متهالك، وعلى بُعد خطوتين يوجد صندوق كبير من الخشب الرديء يحوي ملابسهم،  علب الأدوية الفارغة والمملوءة تتناثر في المكان .
كان زوجها نائم في أحد الأركان وقد افترش الأرض وتدثر بأغطية بالية محا الزمن ألوانها وبهجتها وتركها باهتة شاحبة، بجانبه طفلته الرضيعة، نظرت إليه زوجته بحنق وقد جعلها الغضب والإنهاك تناديه بصوتِ قاسِ:سيد،  أصحى
قام من رقدته مفزوعًا من صوتها وقد زاد الفزع من شحوب وجهه
-            في إيه؟
-          حرام عليك من الصبح وأنا بجيب طلبات للعمارة وبغسل عربيات و أنت نايم.
-          أنا تعبان مش قادر أقوم، طول الليل ما نمتش من وجع بطني،
كانت الكلمات تخرج من فمه متهدجة متقطعة كأنفاسه، كان سيد في الأربعين من عمره ولكنه بدا كشيخ في الستين، جسده هزيل وعيناه غائرتان في محجريهما، صفرة المرض تكسو وجهه المتهدل، بطنه المنتفخ يخبرك بأن المرض قد نشب أظافره الحادة في جسده الضعيف وأردى كبده عليلًا.
استندت أم أحمد إلى الجدار وأغمضت عينيها وزمت شفتيها وأخذت نفسًا عميقًا وقالت له في صوت خفيض
-            وأنا كمان تعبانة ما بقتش قادرة على شغل العمارة وطلبات العيال
-          قولت لك طلعيهم من المدارس يساعدونا.
وهنا أعتدلت أم أحمد وبدا على وجهها وعلى صوتها الجدية و التحفز
-            لأ، لازم يكملوا الثلاثة تعليمهم علشان ما يتعبوش زينا
ثم كلمته بلهجة أمرة
-           قوم جيب لمدام وفاء الطلبات اللي عايزاها
حاول سيد أن يستند بيده على أرضية الغرفة ليقوم، ولكن تبوء محاولته بالفشل وسقط مكانه ثم نظر إليها بتوسل
-            مش قادر
نظرت إليه بيأس وهي تمنع دموعها أن تنساب على خديها، ثم خرجت من الحجرة.
رأتني أمامها , أزعجني وجهها الباكي.
-          مالك يا أم أحمد؟ أعادت رسم ابتسامتها على وجهها، ولكنها ابتسامة بطعم الألم.
-          مفيش يا أنسة أمل, سلامتك
أعلم أنها لا تحب البوح وتأثر الصمت والتحمل وحدها بعيدًا عن الناس، فهذا قدرها.
تركتها وسرت في طريقي .
تُلهينا أحداث الحياة و صخبها عن أقرب الناس و تُلهينا كذلك عن أولئك الذين يعانون في صمت.
انتهت امتحاناتي، فعدت إلى بيتي فرحة وأنا أفُكر بأي المتع أبدأ أجازتي؟
فتفاجئني أمي وقد ملأت الدموع عيونها: - سيد البواب مات.
جلست مكاني وأنا أردد-: مات؟!
 الموت هو تلك الحقيقة التي تحوطنا ولكننا لا ننتبه لها إلا عندما يفاجئنا، ودائمًا يفاجئنا ، تكمل أمي حديثها الباكي
"كان عيان ومحدش عارف وكلنا مش واخدين بالنا، حتى مراته"
سألت نفسي ،كيف لا تنتبه زوجة لآلام زوجها ومرضه؟
هل هذه قسوة منها؟ هل كانت تكرهه؟
مرت أيام وعادت أم أحمد من بلدتها مع أولادها بدون سيد الذي وُري الثرى ليرتاح من قسوة البشر, رأيتها بملابس الحداد، ذهبت إليها، أردت أن ألومه ، كيف لم تنتبه لمرض زوجها ؟ اقتربت منها رأيت وجهها لأول مرة بلا ابتسامة، رأيت الحداد يرتديها كما ترتديه، ووجهها كأنه مات من ألف عام، ألهذه الدرجة هي حزينة؟!
حاولت أن أتذكر أي من كلمات العزاء فإذ بدموعها التي تنساب من عينيها بلا نحيب تنسيني الكلمات جميعًا ، احتضنتها وأنا أبكي وأردد بداخلي يالنا من قساة غافلون.

* . * . * . *

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

فات الآوان

من روائع صلاح جاهين