سنوات الغضب

سنوات الغضب





سارت صفاء في طريقها بخطى ثابتة واثقة، لا يعنيها منذ متى لم تسر في هذا الطريق، منذ سنوات لا تعلم عددها, قد يكون لثبات خطواتها سببًا وهو إنها عزمت أمرًا ولن يثنيها عنه شئ.
سارت صفاء في طريقها وهي تحمل وجهًا جمدت تعبيراته فأصبح وكأنه قُدَّ من صخر.
يالقسوة الحياة!! أهذه صفاء المبتسمة الراضية رقيقة المشاعر؟! كيف تبدل بداخلها الرضا بالسخط والرقة بالقسوة؟!
وفجأة، ارتبكت خطواتها ودوى داخلها صوتًا قويًا وكأنه صوت ضميرها يسألها " ماذا تنوين أن تفعلي ؟ ، انتبهي ".
وتجيب صفاء الصوت بداخلها " ما كان يجب أن أفعله منذ زمن، هذا الرجل حطم حياتي وحياة أمي وأختي، يجب أن انتقم منه شر انتقام ".
-          " و لكنه اباكِ ".
تتعثر صفاء في خطواتها و تكاد تهوى ولكنها تعتدل وتجيبه
-    " أبي ؟! ، ولماذا لم يتذكر هو أنه أبي منذ أن طلق أمي ؟ نسى أنه أب لأبنتين ولم يتذكر إلا بناته من زوجته الثانية ، لا لا ، هذا الرجل لا يستحق الرحمة، يجب أن اقتله " .
تضطرب صفاء وتتعثر خطواتها عندما تتذكر ما نوت أن تفعله، يخرج صوت ضميرها أقوى هذه المرة
-          " أجننت ؟! تقتلين أياه ؟! " .
تصرخ صفاء في داخلها: " اثبتي، لا تأخذك الرحمة بهذا الرجل، تذكري أيام كنتي تنامين جائعة أنتِ وأمك وأختك الصغيرة وهو ينفق على زوجته وبناته يمينًا ويسارًا ،
تذكري أيام كنتي تذهبين إليه وتتوسلين له ليعطيكم الفتات وهو بكل قسوة يرفض و يعيدك خائبة الرجاء ".
يعود صوت ضميرها ضعيفًا هذه المرة ليقول " ولكنه أباكِ ، والقتل جريمة بشعة "
-    " أبي ؟! ، وكيف لي أن أنسى ما عانته أمي لأنال شهادتي المتوسطة؟، كيف انسى يوم نجاحي عندما قالت لى:" أنا تعبت يا صفاء، ابحثي عن عمل لتساعديني يا بنتي " ؟!
 كيف أنسى يوم بحثت في كل مكان في البيت عن شئ أقتات به قبل ذهابي إلى عملي الذي أبقى به طوال اليوم فلم أجد إلا بيضة أسرعت إلي أختي لتطلب مني تركها لتفطر هي و أمي بها، يومها صرخت بأختي الصغيرة المسكينة التي أرادت أن تسطو على وليمتي، وشعرت بالخجل من نفسي وبالمرارة في حلقي، وقررت أن أذهب إليه، أشكو إليه بؤسنا عله يتراجع عن قسوته ويرحم حالنا، عندما فتحت لي زوجته الباب بادرتني بصوتٍا قاسٍ
-          في حاجة ؟
-          عايزة بابا .
-          طيب أدخلي .
و جاء هو ..أبي ..
-          بابا أرجوك ساعدنا ، ماما مريضة و أختي مش عارفة أصرف على تعليمها .
-          ليه ؟ أنا سمعت انك بتشتغلي .
-          أيوه بشتغل ، بس بملاليم .
صرخ في غضب " انتي عاملة زى أمك طماعة "
-    ما تجبش سيرة ماما مش حرام تبقى عايش في شقة فخمة وعربية وعندك كل حاجة وأنا وأختي مش لاقيين ناكل، شايف طبق الفاكهة ده، أنا حتى ماعرفش طعمه
صرخ بحدة "أخرجي بره مش عايز أشوف وشك هنا تاني ".
وخرجت من بيته وأنا لا أرى الطريق أمامي من خلف دموعي، و بعد كل هذا تطلب مني أن أرحمه ؟؟!!! "
عندئذ خفض صوت ضميرها وخرج من أعماقها وكأنه يخرج من بئر سحيق
-          ولكن أن قتلته سيضيع مستقبلك
-    " مستقبلي ؟! ، أى مستقبل هذا ؟؟! ، أمي ماتت حزنًا و كمدًا و مرضًا ، و أختي لم تكمل تعليمها ، و أنا أعيش كالأموات " .
ثم صرخت بداخلها: " لا لا ، يجب أن أقتله بهذه السكينة، سأغرسها في قلبه، هذا ما يستحقه " .
وجدت صفاء نفسها عند باب شقة .
دقت الجرس، انتظرت ليفتح لها أحد، فتحت لها فتاة جميلة ، إنها أختها لأبيها .
نظرت صفاء إليها نظرات جامدة
-          " ابوكِ فين؟ "
-          " صفاء ؟! معقولة ؟!  أنا فرحانة أوي أنك جيتي ، أدخلي يا صفاء ، عايزة تشوفي بابا ؟ "
تعجبت صفاء من هذا الترحاب الذي لم يكن لها سابق عهد به .
مشت صفاء على مهل في صمت وتعجب، و فتحت أختها باب غرفة ودخلت صفاء حجرة أبيها، ورأت ما لم يكن يخطر ببالها .
أبيها ذلك الرجل المتغطرس يرقد بسرير المرض لا يتحرك ، اقتربت منه صفاء فنظر إليها نظرة ذليلة آسفة .
لم تصدق نفسها، وعادت تنظر إلى أختها التي قالت لها باكية :
-  بابا جت له جلطة يا صفاء، ما بيقدرش يتحرك وحالته سيئة جدًا، أنا عارفة أنه ظلمك، سامحيه، هو مش قادر حتى يطلب منك تسامحيه، ياريت تفضلي معايا، أنا بقيت لوحدي بعد موت ماما وزواج أختي "
رن صوت التليفون
"دقيقة يا صفاء "، وخرجت أختها من الحجرة .
اقتربت صفاء من أبيها، فاذا بها تراه ينظر إليها، و قالت صفاء في نفسها " الآن أنا وأنت وحدنا، و لا تستطيع أن تحول بيني وبين ما أريد "، ثبتت عينيها في عينيه، حاولت أن تشحذ عزيمتها على المضي قدمًا فيما نوت عليه، تنظر إليه للمرة الأخيرة، تبحث في ملامح وجه في نظرات عينيه عن ذلك المتغطرس قاسي القلب ولكنها لا تجد غير جسداً مسجى في سريره، كساه المرض ضعف وقلة حيلة ورأت عينيه وقد بهت لمعانها وزال بريقها وشابها انكسارًا لم تعهده فيها، غالبت صفاء صوتًا بداخلها يزعجها وينغص عليها حلم الأنتقام، صرخة في أعماقها تخبرها أن لا رأفة ولا رحمة 
فتحت صفاء حقيبة يدها ومدت يدها فيها لتخرج شيئًا ونظرت في عين أبيها الباكية, أطالت النظرحتى نبهتها دموع غافلتها وسالت رغمّا عنها، أرتعشت يداها وسقط منها شيء ولكنها لم تلتقطه.





* . * . * . *



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أم أحمد

فات الآوان

من روائع صلاح جاهين