صرخة جارية


صرخة جارية 








نظرت ماجدة إلى زوجها الراقد أمامها على فراشه وهو يغط في نومه، مستريح البال هادىء السريرة.
حدثت نفسها:
 "يا له من رجل! كم أحقد عليه, أنه ينام ملىء جفونه, لايشعر بتلك المرأة التعسة التي أوقعها حظها العاثر معه لتشاركه حياته هذه، ياله من رجل مرتاح الضمير ينام كأنه طفل، سئمت العيش بجواره، هذا الذي لايراني غير جسدًا يطفىء فيه نار شهوته، وأحيانًا ثائرة غضبه، أتقلب على جمر من النار بجانبه ولا يشعر بي، أترك فراشه مرة تلو الأخرى في الليلة الواحدة علني أستريح من هذا السجن الأبدي ولو لبضع لحظات وهو يغط في نومه غير مبالي.عامين هما عمر زواجنا، "لا" بل دهر.عامين لم يسفرا ألا عن عذاب ووحدة و .. ، جنين في أحشائي،  أه من قدري لم أرضى بهذا الرجل، فضلت الموت عليه، لكن هيهات أن يتركوني أموت لأستريح، لم يسمح أبي لي ألا بالموت البطيء مع هذا الرجل."
ذهبت ماجدة إلى الشرفة لتملاء رئتيها بهواء جديد لا يقاسمها زوجها فيه، أخذت نفسًا عميقًا،و أنفرجت شفتاها عن أبتسامة هادئة وهي تحدث نفسها:
-       ما أجمل الدنيا بعيدًا عنه ! يا له من هواء عليل!
قطبت ماجدة جبينها حين مرت صورته أمام عينيها وقالت:
-    أه يا حبيبى كلما تنسمت نسيمًا عليل أتذكرك، حرموني من نعيم حبك، أجل ما خنت عهدك يا حبيبي ولن سيعرف قلبي حبِ سواك ، أه لو تعلم إن ذكريات حبك هي النهر الذي أروي منه زهرة حياتي البائسة لتبقي صامدة، كل أحلامنا وأمانينا وفرحنا وحزننا ولقاءاتنا،كل ذكرياتك هي وحدها التي بها أعيش . ترى هل مازلت تذكرني؟
"لا" لم أقصد يا حبيبي، أعلم أنك تذكرني، لا أصدق أنك تنساني ابدًا،فما كان بيننا هو فوق النسيان، فسبحان من جعلني أذوب فيك عشقًا وأتمزق كلما زاد بعدك، وأنسى ما مر من أيام بعيدًا عنك وكأننا لم نفترق ولم يُكتب لكل منا حياة بعيدة عن الآخر، "حبيبى" لا زلت أحبك، ولا أعلم أين المفر من هذا الحب وأعلم  إن العذاب قدري، وأنا أحتمله، ولكن ما فاق أحتمالي أنك وإلى الآن تظن أنني خنتك، لماذا لم تصدقني ؟! ماذا كنت أفعل؟ ما أنا إلا فتاة ضعيفة في مجتمع لايعرف حرية المرأة إلا على صفحات الجرائد و الكتب .
لم يشفع لها ما نالته من ثقافة وعلم في أن تنال تلك الحرية المنشودة، "انها ليست حرة" أدركت ماجدة هذا مؤخرًا، فالحرية بالنسبة لها كانت وهمًا كبيرًا،لم تدرك كم هي وهمًا إلا حين جاء أبوها و قتل بداخلها كل أحلام الحب وكل أوهام الحرية التي توهمت أنها نالتها، فاجئها أبوها برفضه لزواجها وألصق بها كل نقيصة لأنها تجرأت وأعلنت حبها، بل لانها أحبته،  وأن يحبها رجل وتبادله الحب، وطلبها أن يكلل هذا الحب بالزواج و أنها صرحت بموافقتها هكذا بدون خجل أوحياء، أنها أفعال يستحل معها دمها، فالزواج عند ابيها هو رجل أتى ليطلبها منه، رجل لا تعرفه ولا يهم أن كانت تكرهه ولاتطيق رؤيته فهذه أمور لا يعبىء بها والدها، ولكن ما يشغل باله هو أن يأتي الرجل الذي يحمل عن كاهله هذا العبء الذى هو هي، وهو لا يصلح لأنه لا يملك ما يريد فهو فقير.
ولم تجد توسلاتها ليرحمها من أهانته وقسوته، لمن تلجأ المرأة اذا تخلى عنها أبيها ،لم تجد أمامها ألا الخطيب المنتظر، صارحته بأنها تحب غيره ، فلم يحفل بما قالت، فالشاة عندما تباع لايهم شاريها أن كانت تتألم أم لا، فأنه لا يهتم ألا بشيء واحد، هو كيف ومتى يذبحها؟ لا يهمه إلا أن يأكل لحمها الشهي. رمقها بنظرة تعجب:
-          ماهذا الكلام التافه؟ أى حب تتكلمين عنه؟ غدًا سوف تنسين.
-          ولكننى أصارحك!! لا أريد أن أخدعك، أنا لن أنسى الرجل الذي أحبه أبدًا.
-    أرجوكِ ليس لدي وقت لهذا الكلام التافه، لقد أتفقت مع أبيكِ على كل شيء، فأنا قادر على تحقيق ما يريد، وأريد الزواج، وليس لدي وقت أفكر في الحب وأن كنتِ تحبيني أم لا.
-          أنني كنت أكرهك لأنك ستفرق بيني و بين حبيبي، ولكنني الآن أكرهك وأحتقرك .
-          بعد الزواج سأعلمك كيف تتكلمين مع زوجك.
ماذا كانت تفعل؟ حتى هو لم يصدقها وظن انها تلهث وراء العريس الثري، وأكتملت المأساة، وكُتب عقد البيع أو كما يسمونه عقد الزواج، وإذ بها مع هذا الوحش الضاري، قاسي في كل شيء، حتى عندما يقتضي الآمر أن يُظهر بعض الحب ولو للحظات، فأنه يحولها للحظات عذاب وحرمان، أنه ينتقم منها لأنها صارحته بحب غيره قبله، لقد أراد أن يلقنها درسًا قاسيًا يجعلها تعرف أن حرية المرأة ما هي إلا منحة من الرجل لها، فلا يجوز أستخدامها إلا لصالحه و لأرضاء رغباته.
 وفي هذه اللحظة أحست بزوجها يزجرها بشدة.
-          ما هذا يا هانم ؟ ماذا أيقظك الآن؟ ألا تدركي أني متعب طوال اليوم وأريد أن أستريح .
حاولت أن تستجمع ما تبقى لها من رباطة جأش وأن تتجنب النظر إليه
-          أنا أسفة ولكنني كنت قلقة قليلًا
-          وماذا يقلق مثلك؟ فأنتِ أنسانة تافهة لايوجد في حياتك شيء   يستدعي القلق.
-          أرجوك كفاك تحقير لي، ألا تستطيع أن تعامل زوجتك أفضل من هذه المعاملة؟
-          أتعلميني كيف أعاملك؟ أنتِ لا يجدي معكِ ألا معاملة واحدة، هكذا
وضربها بشدة فصرخت فأزداد ضربه لها وأزداد صراخها، ليس من ألم الضرب فقط و لكن من ألم في نفسها لايشعر به ألا هي، ألم المذلة و الأهانة، وإذ ببصرها يقع على سكين قريب لا تدري كيف أخذتها؟
 ولا كيف ظهرت كل الأيام السوداء التي عاشتها مع هذا الرجل تتراقص أمام عينيها كأنها أشباح لقتلى مشوهِ الخلقة، ولا كيف فعلت ما فعلت وقتلته؟ ولكنها سمعت فقط صرخة خرجت من قلبها  المحطم ملئت أرجاء الكون، صرخة كل مظلوم في هذا العالم.








تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أم أحمد

فات الآوان

من روائع صلاح جاهين