لحظة أختيار

                         لحظة أختيار
                               (الجزء1 )  

                            -------------------------




 (1)
أشرت للسائق أن يضع الأكياس جانبًا وينصرف،ثم نظرت بلا مبالاة إلى ساعة الحائط التي دقت تعلن منتصف الليل، لم أهتم، فقد اعتدت الرجوع إلى بيتي كل يوم في هذا الوقت، ألقيت بجسدي المنهك على الأريكة، أغمضت عيني وأنا أتسأل لما كل هذا؟!
لا أكف عن الشراء، ملابس، مجوهرات ....، ليل نهار خارج بيتي، أنفق ببزخ في ما يهم وما لا يهم، لا أبرح النادي إلا للتسوق، إلى متى يا نجوى؟
أنتفضت وأعتدلت، ثم سألت نفسي مرة أخرى: -
 لماذا أوبخ نفسي كل هذا التوبيخ؟! أليس من حقي أن أعيش حياتي كما أريد؟! أليس من أجل هذه الحياة بعت شبابي وجمالي لرجل يكبرنى بخمس وعشرون عام؟ ألا يكفييني ما عانيته من شظف العيش،فقد قتلني الفقر وعذبني، وهل لجميلة مثلي أن تحيا حياة الذل والفقر؟!
أنتبهت من شرودي على صوت أبنتي الجميلة ذات الأعوام الستة،
جرت عليّ وأرتمت في أحضاني
-       أمي لماذا تأخرتِ هكذا؟ كنت أريد أن العب معكِ قبل أن أذهب إلى فراشي.
-       و لماذا لم تنامي وترجئي اللعب إلى الغد ؟ فغدًا أجازة .
-       ولكنكِ يا أمي قد تخرجين غدًا أيضًا
-       أذن فألعبي مع دادة فاطمة
-        لا يا أمي، أريد أن ألعب معكِ أنتِ.
أخذتها بين زراعي  و قبلتها قبلة حانية،
-       صغيرتي أذهبي إلى سريرك وسنذهب غدًا معًا إلى النادي و سنلعب و نمرح و سأفعل لكِ كل ما تريدين.
-        حقًا يا أمى! سأذهب لأنام حتى أستيقظ مبكرًا وأذهب معكِ
وقبلتها وهي تشعر بسعادة غامرة، ثم أصطحبتها المربية إلى غرفتها.
جلست واجمة وشعرت بأن طفلتي بائسة، فهي محرومة من حنان الأب لأنشغاله الدائم في أعماله وكذلك من حنان الأم ، 
       وعدت أتسأل: ولكن لماذا؟ لماذا يا نجوى؟! ماذا ينقصك؟ المال كثير وثراء زوجك فاحش ولديكِ الخدم الذين يتولون أمور البيت، ليس أمامك الا زوجك و أبنتك، أما زوجك فهو رجل أعمال يقضي أغلب أوقاته خارج البلاد، و عندما يكون بداخل البلاد فأنه دائمًا مشغول بأعماله وهو ليس بالشاب الذى يطلب من زوجته الكثير، أذن لم يبقى أمامك ألا أبنتك فلماذا تحرميها منكِ ؟ لماذا ؟
"إن هذا ما يؤرقني، شيء بداخلي يدفعني إلى التمتع بكل لحظة في حياتي ، فمادمت لا أفعل ما يغضب الله فلأفعل ما أريد، هذه الحياة طالما حلمت بها وأنا لا أملك ما يسد رمقي أنا وأخوتي وأمي".
      عدت بالذاكرة للوراء، إلى اليوم الذي التحقت فيه بعملي كسكرتيرة في شركة رجل الأعمال الثري، وكان المرتب مجزياً، لم اكن احلم به ابدًا،
     ولأول مرة أشعر بأنني إنسان، يحلم ويحقق حلمه، يشتهي  وينول ما يشتهيه،وكانت سعادة أهلي بوظيفتي الجديدة وما حققته لنا من بعض الرخاء، وخروجنا من طبقة المعدمين لا تقل عن سعادتي، السعادة بحالنا الذي تبدل غمرت الجميع إلا شخصًا واحداً فقط الذي حزن لتغيري المفاجىء، أجل هو عادل أبن الجيران الذي شاركني الحزن والفرح والفقر أيضاً ولكنه شاركني أيضا الحب، أحببته بكل جوارحي وكنا نعيش حلاوة الحب بجانب لوعة الفقر، نحلم ونحلم ولكن ماذا يفيد الحلم مع الفقر والحاجة؟،كان عادل لا يقل فقرًا عني، فماذا كنا نفعل؟ هل نتزوج ونأتي بأطفال ليعانوا كما عانينا؟ لا، لن أقبل ذلك لأبنائي، أذا فماذا نفعل؟، كان العمل في هذه الشركة بالنسبة لي شيء لم أكن أتخيله، حياة جديدة ، أناس يتمتعون بحياتهم،
        كنت أرى صاحب الشركة كل يوم، ما أسعده! ملابس فاخرة، عطور خلابة، سيارات فارهة، أموال لا قيمة لها إلا بإسعاد أصحابها.
حياة جديدة ومبهرة، لم تكن حياتي قبل ذلك إلا عذاب في عذاب،لم أعد أطيقه وشعرت أنني تغيرت، لم أعد أحتمل الفقر ولا حياتي ولا الحارة ولا أكل الفول ليل نهار،
      أصبح كل هذا غير محتمل بالنسبة لي، من العسير علي أن أعيش فى عذاب الفقر وأنا أرى أمام عيني نعيم الثراء .
     كان عادل يشعر بإن شيء بداخلي قد تغير وخاف من ذلك وحذرني كثيًرا من هذه الحياة التي لا أعرفها، ولكني لم أكن لأسمع له ولا أبالي بنصائحه، كان صاحب الشركة يعاملني بلطف ويكثر من منحي المكافأت والعطايا، وقد سعدت بذلك وظننت أنه سعيد بكفاءتي، ويحسن معاملتي لأنه في عمر أبي،  ولكن كان هذا كله وهمًا فقد ظهرت لي الحقيقة عندما طلب أن يحدثني بشأن موضوع هام
-          أيوه يا فندم، أنا تحت أمرك
-          نجوى أنتِ فتاة جادة ومهذبة وأنا أقدر لكِ حبك لعملك
-           هذا واجبي يا فندم و..
-          أسمعيني يا نجوى فأنا لن أطيل عليك  ،أنا معجب بكِ و أريد أن أتزوجك.
     زلزلت كلماته كياني، ولم أستطع أن أرد ببنة شفة، بت أفكر ليلي كله مؤرقة ساهدة، ماذا أفعل؟ أنه يكبرني بخمسة وعشرون عامًا، وماذا يقلقني في هذا؟
     إن السن لا يعيب الرجل، فهو رجل ذو هيبة ومركز مرموق وثراء فاحش ويتمتع بصحة جيدة وسيجعلها تعيش حياة لم تكن تحلم بها، وستنقذ أسرتها من الفقر وتجعل أمها تعيش بقية أيامها في راحة وكذلك أخواتها
وعادل يا نجوى، وهنا أرتجف جسدي، ماذا افعل حيال حبيب قلبي وعمري؟ فأنا لا أستطيع الأبتعاد عنه وكذلك هو، ماذا سيقول عني؟
تتنازعني الأفكار، تلهبنى بسياط الحيرة،
ولكن يا نجوى ماذا يفعل الحب مع الفقر؟ و إلى متى يستمر هذا الحب؟ فالفقر يقتل الحب، وهما لن يستطيعا الزواج، وظللت ليلتي ساهرة قلقة ساهدة أفكر إلى أن طلع عليّ الصبح فأرتديت ملابسي وأتجهت إلى الشركة وقد حزمت أمري.
(2)
         عدت من أوروبا وقد بهرني جمالها ورقيها، الذي فاق كل أحلامي، مر شهرالعسل سريعًا، وقد حقق لي زوجي كل ما كنت أصبو إليه من أحلام الثراء،
ومرت الأيام بعد ذلك ثقيلة مملة فكما أن الفقر موحش ثقيل فكذلك الثراء عندما يصبح هو نفسه هدف،مرت حياتي هادئة رتيبة،كانت أبنتي هي الواقع الوحيد الجميل في حياتي
       ولكن بُعد زوجي عني وأنشغاله بأعماله قد جعلني أئن من شعوري بالحرمان من الحب والحنان والأهتمام بي كأنثى جميلة، والمال لا يستطيع أن يعوضني عن ذلك، ولكن ما حيلتي في ذلك؟ والنوم هو الجحيم الذي يشاركني فيه الحرمان
لأيام طويلة أظل ساهدة في فراشي لا أشعر بالراحة، فقد كان فراش الفقر أهون علي من هذا السهد الذي لا ينتهي، ونمت أملًا أن أرى شيء من الحب في أحلامي.
أستيقظت على وجه صغير جميل يقبلني وما هي ألا ساعة وخرجت بصحبة طفلتي الجميلة من المنزل لنستقبل يومًا جميلًا لأم وأبنتها، وانتهى اليوم بذهابنا إلى الملاهي،
وعند خروجنا من الباب أصطدمت برجل متجه إلى الداخل ورفعت عيني إليه ويا لها من مفاجأة، فهذا الرجل لم يكن ألا عادل، أجل عادل حبيبي
-          عادل أنا لا أصدق عيني
-          كيف حالك يا نجوى؟ هل هذه أبنتك؟
-          نعم، ولكن كيف حالك أنت ؟
أجابني وهو يحدق في وجهي وقد تغيرت نبرة صوته:
-    كما أنا، لم يتغير حالي كثيرًا، فأنا أعمل الأن في وظيفة حكومية مرتبها يكفي بالكاد، وأعيش في شقة صغيرة و لكنني سعيد و الحمد لله .
فسألته في تردد
-          ألديك أطفال؟
-          أنا لم أتزوج يا نجوى
ورمقني بنظرة غارت في أعماقي
      عدت إلى البيت وأنا اشعر بأن شيء بداخلي قد تحرك، أنه حبي القديم لأبن الجيران،"أجل" وهنا شعرت بأن شيء ما بداخلي قد تحطم وتناثرت حطامه ثم تلاشت وهذا الشيء لم يكن ألا مقاومتي وتحملي لحياة الحرمان هذه التي أعيشها، ولكن ما هذا؟ أكل ما يحدث لي الأن لأنني رأيته؟ خرجت زفرة من صدري تجيبني، "لا"  أنه لقاء أشبه بالقشة التي قصمت ظهر البعير.
       شعرت أن بركان أنفجر بداخلي وأخذت أردد: "لم أعد أطيق هذه الحياة فليذهب المال إلى الجحيم، فإن حياتي الأن ما هي ألا فراغ قاتل، أشتاق للحظة حب، للحظة أرتواء وزوجي لا يستطيع أن يعطيني هذا"
ثم أنتفضت من مكاني، أريد أن أرى عادل مرة أخرى، لا ولكني لست بالزوجة الخائنة، لقد قاومت كثيرًا السنين الماضية ولكن عادل لاأستطيع مقاومة حبه بداخلي، ولكن لا فلأتحمل وأنسى هذا اللقاء
ومضت الليلة في سهد مثل بقية الليالي وظهر الصبح باهتًا حزينًا ولكن خرجت لعلي أجد ما ينسيني أحزاني، واقضي فيه يومي حتى جاء موعد طبيب الأسنان فأتجهت إلى المصعد وأذا بي أمامه، هو عادل بنفسه يا للقدر

 (3)
      لم يضن الزمن علينا بهذا اللقاء الثاني، كأنه أراد أن يشعل نار الحب في قلبينا من جديد، تقابلنا وقد حاولنا أن نخفي حبنا وأن نمنع أعيننا من أن تفضحنا، نظر كل منا للأخر وهو يتحاشى أطالة النظرة وأظهار لهفته.
-       ماذا تفعلين هنا؟
-        موعد طبيب الأسنان وأنت؟
-       أعمل عمل أضافي في شركة بهذه العمارة.
وقفنا ننتظر نزول المصعد، وكل منا يختلس النظر إلى الآخر،
وأغلق باب المصعد علينا وصعد بنا دورين ثم
أنقطعت الكهرباء، قلت بضيق
-          يا للحظ موعد الطبيب
-          لا بأس ستأتى الكهرباء حالًا.
     سمعت في الخارج صوت تأفف الناس من قطع الكهرباء وعلى ضوء هاتفي المحمول نظرت إليه نظرة هروب فنظرة عتاب فنظرة شوق وحنين و أتقد الهوى الجارف الذي لم يمت طيلة هذه السنين بيننا، فألتفتت بوجهي إلى الجانب الأخر حتى لا أضعف أمامه، وتعلقت بخوفي من الله وأبتعدت قدر ما أستطيع، ولكنني لم أستطع أن أمنع دموعي أن تنسال على خدي، وشعرعادل بإن قلبى لايزال ينبض بحبه، فنظر لي عادل و صرخ
-          ولماذا تركتني؟
-          لا تعاتبني فأنا أتعذب من يوم تركتك.
-           ولماذا؟
-          أخطئت، سامحني.
هدأ عادل قليلًا وكسا الحزن نبرة صوته.
-          أجل، فأنا أعلم الناس بما كنتِ تعانيه ولكنكِ قتلتي حبنا
-          "عادل" يجب أن نعود لحبنا، بعدما رأيتك مرة أخرى لن أستطع تحمل هذه الحياة بدونك
صمت عادل و قال بصوت حزين:
-          أنتِ امرأة متزوجة.
وعادت الكهرباء ومشى كلانا إلى مقصده
عدت إلى بيتي وقد عقدت العزم على أمر، فأنا لم ولن أكون زوجة خائنة وليذهب المال إلى الجحيم، تكفيني لحظة حب حلوة أحياها مع من أحب،
وتسائلت: "ولكن أبنتك يا نجوى؟" ، ملأنى شعور بالتحدي هتف داخلي:" أبنتي لن يسعدها أن تعيش مع حطام أم، أو أم خائنة تجلب العار لها، لا لن أتراجع،
والفقر يا نجوى، أنسيتِ أيامه؟ كيف تقبلين العودة مرة أخرى لجحيمه بعد أن اعتدتِ حياة الرفاهية؟ يا لحيرتى!! وفي هذه اللحظة تنبهت على قبلة وضعها زوجى على جبيني،
     
(4)
-          حبيبتي وحشتيني جدًا
-           متى عدت من السفر؟
-          منذ ساعة تقريبًا ، وأنتظرتك لكي أعطيكِ كل الهدايا التي حملتها إليكِ، فهي رائعة و أفضل من أى
-           أنتظر أرجوك، أريد التحدث معك في شىء آخر أهم.
-          لا .. ،  هذا لا يصدق فإن الهدايا هى أول شيء تسألين عنه بعد رجوعي من السفر.
-          أرجوك، أسمعني، فأنا لم أعد أحتاج للمجوهرات والملابس كما أحتاج للحب والحنان
تعجب زوجي و أنتابه شعور غريب بإنني قد تبدل حالي، وشعر بهاجس غريب أرقه، فقد حاول دائمًا أن يغدق علي المال لينسينى فارق السن بيننا، أنه لا يطيق حياته بدونى.
-           ماذا تقولين يا حبيبتي؟ فأنا ملك لكِ   ... لقد أعددت لكِ مفاجأة
-          أرجوك أسمعني
-          هل تذكرين فيلا التجمع؟ كانت تعجبك، نذهب غدًا لشرائها وبأسمك.
-           أترك موضوع الفيلا الأن ، أريد منك .. .
-          وسأكتب لكِ عمارة الدقي وسأشتري لكِ سيارة جديدة .
هدأت قليلًا، ورق صوتي
-            ماذا تقول؟
-          متى نذهب إلى الشهر العقاري؟
شردت بفكرى بعيدًا، هل سأضحي بكل هذا؟ هل سأتخلص من  شهوة المال، حيرتني مفاجأة الزوج فلم أتكلم، فأدرك أنه نال غرضه فهدأ وجلس على مقعد بجانبه وهو يشعل سيجارًا فاخرًا :
- ماذا كنتِ تريدين يا حبيبتي؟
تنبهت من شرودي على صوت زوجي، ولم تنطق بكلمة مما زاد من  إلحاحه.
-          ماذا كنتِ تريدين يا نجوى؟
-           أريد... أريد شيء واحد.
-          ما هو؟
-          الطلاق.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أم أحمد

فات الآوان

من روائع صلاح جاهين