و مات اِبى



ومات أبى ....


كانت السيارة تسير بسرعة كبيرة ، فيخيل للراكب أنها تطوي الأرض طيًا وكأنها في سباق، ويخيل لمن بداخلها كأن للسيارة ذراعان ترجعان كل السيارات التي أمامها للخلف فتكون هي الأولى دائمًا.
ولم تكن هذه السرعة ترهب المرأة التي بداخل السيارة لأنها هي التي طلبت من السائق ان يُسرع بأقصي ما عنده.
و بالرغم من أنها سيارة كبيرة من السيارات التي تحمل 7  أفراد،  الآن تحمل بداخلها امرأة واحدة جاءت في الصباح وطلبت من السائق ألا ينتظر وأن يسرع بها إلى بلدتها وستعطيه ما يريد من مال.
كان الطريق بالنسبة لسلوي بعيدًا جدًا، أنه طريق طويل لا تحسبه بالكيلومترات ولكن بالسنين والأيام، منذ سنوات طويلة لم تسر في هذا الطريق، منذ تزوجت من عشر سنوات،
رن جرس هاتفها المحمول كان صوت اخيها
-            أنا في الطريق يا هشام ما الحال عندك ؟
-          أزداد المرض عليه وأحيانًا يدخل في غيبوبة ثم يفيق وينطق   بأسمك
-          ماذا قال الطبيب ؟
-          رفض أن نأخذه إلى المستشفي وفضل بقاؤه في البيت
    صمت هشام قليلاً ثم قال في تأثر
-          يرى الطبيب أنها مسألة وقت .
نظرت سلوي إلى السائق ورجته أن يسرع ، ثم قالت في نفسها ماذا يحدث لو مات قبل وصولي ؟
عادت سلوي بذاكرتها إلى عشر سنين مضت، عندما رأت أبيها أخر مرة وكان ذلك بعد زواجها بشهور، ذهبت هي وزوجها لترى أمها وهي على فراش المرض، كانت أمها مبتسمة راضية رغم مرضها وكان أبيها متجهم قاسٍ كعادته والآن بعد أن اطمأنت عليهم وأتمت رسالتها جاء وقت الرحيل،
بعد موت أمها نظرت سلوى إلى أبيها إلى عينيه لم تجد دمعة واحدة ولا نظرة أسى على شريكة حياته، بل فاجأهم بزواجه من أخرى بعد أيام من موت الأم.
عشر سنوات لم تنسى فيهم وجه أمها الباسم الراضي ولا قسوه أبيها على أمها وعليهم منذ طفولتهم .
شعرت سلوى بغصة وهي ترى زكريات طفولتها البائسة ، تتراقص أمام عينيها.
أعتدلت سلوى في جلستها وقالت في نفسها لماذا أنا حزينة هكذا ؟ لم أرى منه إلا القسوة والتجاهل،  حتى زواجي لم يعطني حقي في الأختيار، فلأهدأ قليلًا.
رن جرس الهاتف كان أخيها
-       أين أنتِ ؟ عاد يسأل عنكِ ، كلنا حوله إلا أنتِ
توقفت السيارة أخيرًا
-          أنا أمام الباب
عانق هشام أخته وقبل رأسها
-          حمد لله على سلامتك
-          هل أنت مريض يا هشام ؟ أنك مجهد و وجهك شاحب
-          منذ مرض أبي وأنا أكاد لا أنام
نظرت إليه سلوى بإندهاش وهي تتذكر قسوة أبيها عليه التي زادت عن بقية أخواته وهو أبنه البكر
نظر هشام إلى أخته برفق
-           أنه أبانا ونحن لا نحاسب أبائنا بل نرفق بهم، لقد أحبنا لكن بطريقته.
جاء صوت ضعيف من الداخل
-           سلوى ألم تصل بعد؟
دخلت سلوى مسرعة إلى حجرة أبيها ثم نظرت إليه، لقد تغيرت ملامحه و ضعف جسمه كأن العشر سنوات التي مرت مائة سنة
نظر إليها أبيها وابتسم ابتسامة شاحبة من خلال دموعه .
 سلوى ،لا أصدق عيني يا أبنتي
لم تستطع سلوى أن تنطق بكلمة، فأرتمت في أحضان أبيها وأخذت تقبل رأسه ويديه ودموعها تنهمر على خديها
-          كنت أتمنى أن تأتي بأولادك ونأكل معًا أكلة السمك التي تحبينها
-          غدًا يا أبي وأنا سأطهوها لك .
-          وهل سأبقى للغد ؟
العشرات يهرولون ورائه في مشهد مهيب، يختفي النعش شيئًا فشيء، ثم يغيب عن عيني سلوى التي توقفت في وسط مجموعة من النسوة المتشحات بالسواد وهي تبكي في هيستريا ولا تصدق موت أبيها ، وتقول لنفسها ماذا حدث لي ؟ لم أره منذ عشر سنوات
-           ولكنني كنت أعلم أن أبي موجود وأنه سند لي، والآن مات أبي مات الرجل الذى أحبني دون مقابل .



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أم أحمد

فات الآوان

من روائع صلاح جاهين