أستشهادية



أستشهادية



أشرقت الشمس فتنبهت سلمى وقامت من إغفاءة قصيرة، وبالرغم من أنها لم تنم إلا دقائق معدودة فقد شعرت براحة في جسدها وكأنها نامت الدهر كله. اليوم فقط شعرت بأن الحياة تدب في أوصالها،لم يزعجها دوي طائراتهم ولا صواريخهم، هل لأنها اعتادت سماع هذه الأصوات واعتادت سماع الصراخ والعويل والنواح؟
لا، ولكن الروح الجديدة التي ملئتها جعلتها تنظر إلى الخراب حولها كأنه حدائق غناء.
قامت فارتدت أجمل ملابسها وأزالت ما عليها من غبار؛ فهي غير معلقة في خزانة ملابس، وإنما موضوعة في مكان ما في خيمتها التي تقيم فيها مع بعض البؤساء من أهل هذا الوطن. ارتدت ملابسها واستعدت لما هي قادمة عليه، لم يبق أمامها إلا أن تذهب.
سارت سلمى في طريقها فتعثرت قدمها، ما هذا؟ هذه أحجار وأسياخ حديدية خلفتها المنازل المتهدمة. تابعت سيرها، ثم توقفت مرة أخرى، ما الذي أعاقها ثانية؟ هذه، إنها شجرة زيتون أزالوها. تابعت، ما الذي أعاقها هذه المرة؟ تلك أشلاء طفل وبجانبها جثة امرأة قد تكون أمه.
ما هذا الصوت؟! سيارات إسعاف تنقل أجسادًا لا تراها، فقد غطتها الدماء. الوجوه شاحبة؛ أم تبكي على ابن أسروه، وابنة اغتصبوها. سارت سلمى ولم تلتفت حولها، فما هذا بجديد عليها؛ فبالأمس القريب هدموا بيتهم الجميل، وقتلوا أباها، وذبحوا أمها وبقروا بطنها وأخرجوا جنينها وذبحوه أمام أعينهم -ربما ظنوا أنهم بهذا يغتالون المستقبل، أخذوا أخاها لا تعلم إلى أين؟ أما هي فلم يرحموا طفولتها واغتصبوها.
        ارتجفت سلمى عندما تذكرت، ووجدت نفسها تسير وتدوس على الأرض، على الأحجار والأشلاء وعلى كل شيء، تود لو تدوس على كل القلوب الميتة والأجساد المتعفنة رغم أنها مازالت حية. هى لا تشم رائحة العفن في محيطها مع أن الموت حولها يلف كل شيء بوشاح أسود، ولكنها تشم العفن في الأجساد الخائفة على حياة يملؤها العار والمهانة ولذة زائفة.
قالت لها امرأة ثكلى ذات مرة :
-          السواد يا ابنتى يلف وطننا بأكمله.
-    لا لا يا خالتي، السواد لا يلف وطننا الصغير طالما بقيت المقاومة بداخلنا، بل يلف الوطن الكبير، ونحن نقطة بيضاء في ثوب أسود.
ما زالت سلمى تدوس و تمشي بخطى وئيدة.
-    لا تسرعي، فلتهدئي، يجب أن تنجحي. الآن اقتربى، ستصبحين حرة طليقة بعد دقائق، لن يجدوا جسدًا يعذبوه أو يغتصبوه، فليعذبوا الروح إن أستطاعوا! ولكن هيهات؛ فالله عادل رحيم.
انتظري حتى يقترب أكبر عدد من جنودهم. أجل، هذا الجندى اقترب، يشبه الجندى الذي قتل أختي الصغيرة، وهذا الجندي ذبح أمي، وهذا قد يكون من أسر ابن عمي. هؤلاء هم من احتلوا أرضي.
الآن يا سلمى، استعدي! تسمع صفارة إنذار، يبدو أن أجهزتهم أخبرتهم بوجودها. يتجمع الجنود حولها يريدون تفتيشها، تبتسم، تتلو الشهادتين، ويُسمع دوي الإنفجار. النيران تشتعل في كل مكان، الأشلاء تتساقط، الجثث تملأ المكان وعربات الإسعاف هنا وهناك، عشرات القتلى ولكن شهيدة واحدة.
وكالات الأنباء في كل مكان والصحف والمراسلون يتناقلون الخبر:
"        عملية انتحارية تقوم بها امرأة"
"        عملية استشهادية تقوم بها امرأة"
لا يهم النبأ، ولكن اتسعت البقعة البيضاء في الثوب الأسود.







* . * . * . *





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أم أحمد

فات الآوان

من روائع صلاح جاهين